حسين بك الجزار في الرملة وجدُّه في عكا!

ظللت أتعامل مع «سراية» حسين بيه الجزار في قريتي، باعتبارها كانت إحدى حوائط الصد أمام مبادئ ثورة يوليو 1952 التي قامت قبل أن نولد بسنوات. وفي الستينيات كنت أتعجب من دخول وخروج صديقي خالد للسراية بل ومصادقة أبناء حسين بك!.

والحاصل أنني رأيت حسين بك مرتين، فمرة حين كان يطل من شرفة السراية المخيفة التي تحيطها الأشجار الكثيفة، ومرة حين جاء مشياً على قدميه إلى منزلنا لحضور عقد قران شقيقتي!


في تلك المرة رأيته يتحدث بأدب جم، مع العم «الحاج غريب» والد العريس.. يلاطف هذا، ويهش في وجه ذاك، ويضحك من القلب مع أبي وبينهما المأذون المثقف الشيخ عبد الغفار جاد، ويتناول كوب «الشربات» الذي تنافس على تقديمه الأخوان محمد وعبد الرحمن أبو الحديد!.

أما والحال كذلك، فإن الرجل رغم «بهويته» وطوله الفارع وضخامة جسده لا يخيف، فما المانع إذن من الاقتراب من السراية مع الصديق خالد، وركوب دراجة عصام بك الصغير؟!.


كان الشيخ محمد محروس مدير السراية والمشرف على المطبخ يناديني باسمي الذي علمت فيما بعد أنه جاء تيمناً بشريف بن حسين بك، ومن ثم فقد تشجعت على الدخول مع خالد لأرصد القصر من الداخل حيث الردهة الطويلة والمطبخ الكبير، والغرف التي تطل على الصالة الكبرى من الجانبين، وفي ركن منها سُلم فخم الى الدور الثاني حيث سمعت صوت حسين بك ينادي خالداً فقفزت مرة أخرى إلى الخارج!

هكذا ظل الرجل أمامي كالأسطورة! ويقولون إنه حين كان يصحو في الصباح تنسكب فوق رأسه شمس البلاد، وتهش أمامه كل الورود.. وفي المساء، عندما تومض في وجهه كل النجوم، يحلو له الحديث مع الحاج يوسف الخولي والأستاذ مصطفى إبراهيم، حيث يبدأ في سرد ذكريات السنين.. ويقولون إن وجهه كان في الليل يضيء المكان.. يحب المزارعين من القلب.. وفي رمضان يعلو في السراية صوت القرآن!.

كنت طفلاً في السنة الدراسية الأولى، عندما حملنا كتبنا ومتاعنا من مدرسة جدي عبد الرحمن قايد، التي بناها من ماله الخاص بالطوب اللبن والخشب الزان، واستمرت سنوات وسنوات، حيث تم افتتاح مدرسة جديدة بنتها لنا الحكومة، وعندما كبرنا قليلاً علمت أن حسين بك الجزار هو الذي تبرع بأرض المدرسة الجديدة بل وبتكاليف البناء كاملة، وليس الحكومة.. اكتشفت كذلك أن الرجل يرحمه الله هو الذي تبرع بأرض مستشفى القرية، وببناء جامع كبير يؤمه كبار العلماء الآتين من القاهرة!

رحت أفتش عن أصل حسين بك الجزار، خاصة وأنه ليس من أبناء قريتنا، وعلمت أن والده كان يقيم في قرية الدلاتون وهي نفس القرية التي ولد فيها الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي مؤلف رواية «الأرض»، واكتشفت كذلك أن المبنى الحالي لجامعة المنوفية في شبين الكوم، هو نفسه قصر شقيقه خليل بك الجزار.. سرحت قليلاً بين مدرسة الرملة الابتدائية التي بناها حسين بك الجزار ومبنى جامعة المنوفية الذي بناه خليل بك الجزار!

وحين بدأت في البحث عن أصل عائلة الجزار اكتشفت أن جدَّه أحمد باشا الجزار هو الذي حكم إيالة صيدا في الشام القديم، ولولا وفاته لتولى حكم مصر قبل محمد علي باشا الذي حكم مصر من 1805 إلى 1848، وعندما توجه نابليون بونابرت من القاهرة الى غزة واحتلها ثم تقدم الى يافا في فلسطين مستهدفاً عكا، كتب مهدداً أحمد باشا الجزار قائلاً: لا أرغب في الدخول معك في معركة.. كن صديقي وسلِّم هذه المدينة دون إراقة دماء!، وعندها رد الجزار قائلاً: لن أسلم لكم شِبراً من هذه المدينة حتى أبلغ مرتبة الشهادة!

وهناك في مدخل عكا وحتى الآن يقف جامع الجزار ثاني أكبر المساجد بعد المسجد الأقصى!، يا الله! مرة أخرى أجد نفسي بين جامع الجزار الصغير في الرملة وجامع الجزار الكبير في عكا!

قبل سنوات وقبيل رفع أنقاض السراية، اقتربت من مدار الساقية فوجدت شجرة ياسمين عليلة، وكأنها تنعي لي أفراد الخميلة!، لقد كنت أتصور أن السراية ستبقى بشموخها وطلتها العتيقة، وأن أنواء الزمان لن تعصف بزرعها وأشجارها الوريقة! أواه يا أيامي الراحلة الرقيقة!، أواه يا عم حسين لو تعلم أن البستان.. بستان عطائك لم يجف! وأن المدرسة والمستشفى والأغصان كلما جاءت سيرتك تقف! وأن جامع الجزار كلما مررت يذكرني بفلسطين ويستحلفني أن أكتب عنك.. عن هذا الإنسان «البيه» المختلف.. ها قد كتبت!.

أخبار ذات صلة

الطبيب (سعودي).!
حين تغيب الرقابة ٣ مرَّات..!!
العالم المصري (مشرفة).. اينشتاين العرب!!
الأخلاقُ.. كائنٌ حيٌّ!
;
500 مليون دولار.. للقضاء على مرض شلل الأطفال
القصيدة الوطنية.. بدر بن عبدالمحسن
محمد بن سلمان.. القائد الاستثنائي ومنجزات وطن
الربيعة.. وشفافية الوزارة
;
اللا مركزية.. بين القصيبي والجزائري
الصناعة.. وفرص الاستثمار
ما الذي يفعله ذلك الزائر السري؟
نظرية الفاشلين!!
;
رؤية المملكة.. ترفع اقتصادها إلى التريليونات
أوقفوا توصيل الطلبات!!
نواصي #حسن_الظن
قتل طفل لحساب الدَّارك ويب!!