تلقي النساء العلم في الحرم النبوي.. وتدريسه في القرون الأولى

في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي نبغ الآلاف من العالمات والمتفوقات في أنواع العلوم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه: 'الإصابة في تمييز الصحابة'، لثلاث وأربعين وخمسمائة ألف امرأة، منهن الفقيهات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووي في كتابه: 'تهذيب الأسماء واللغات'، والخطيب البغدادي في كتابه: 'تاريخ بغداد'، والسخاوي في كتابه: 'الضوء اللامع لأهل القرن التاسع'، وعمر رضا كحالة في: 'أعلام النساء'، وغيرهم ممن صنف كتب التراجم لنساء عالمات في الحديث والفقه والتفسير.

ولقد تفوقت المرأة المسلمة على الرجل في علوم الحضارة الإسلامية، وخاصة في جانب علم الحديث ومعرفة رواته، ويسجل تلك الشهادة أئمة علم الحديث والمصطلح، فيقول الإمام الذهبي: 'وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها'. ويؤكد هذا الحكم على تزكية النساء في علم الحديث الحافظ ابن حجر حيث يقول: 'لا أعلم في النساء من اتهمت ولا تركت'.

وكان حرص النساء على طلب العلم الشرعي منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد روى أبوسعيد الخدري، وأبوهريرة، أنّ النساء قلن لرسول الله: 'اجعل لنا يومًا كما جعلته للرجال قال: فجاء إلى النساء فوعظهن وعلمهن'.

وقد كان عطاء بن رباح يقول عن السيدة عائشة رضي الله عنها: 'إنها كانت أفقه الناس وأعلم الناس، وأحسن الناس رأي'.. وكذلك كل أمهات المؤمنين، وأغلب نساء الصحابة أيضًا.. وسأذكر نماذج قليلة وتراجم يسيرة من النساء العالمات من بعد عهد الصحابة اللاتي تلقيْن علومهن في المدينة المنورة:

السيدة سكينة بنت الحسين: كانت من الأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة مع ما هي عليه من التقوى والورع، وكان منزلها مألف الأدباء والشعراء، فهي من أول من أنشأوا 'الصالون الأدبي' بمفهومنا المعاصر، وهي أوّل ناقدة أدبية، وقد اعتبرها المؤرخون من أشهر فقهاء وعلماء جيل التابعين. وُلِدَت السيدة سكينة سنة 47هـ، وأمها هي الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي، وعند ولادتها أطلق الإمام الحسين عليها اسم «آمنة» تيمنًا باسم جدتها أم النبي عليه الصلاة والسلام، غير أنّ أمها اختارت لها اسم «سكينة»، وقد عاشت حياة حافلة بالعلم والأدب والنشاط الاجتماعي، فكانت السيدة سكينة سيدة نساء عصرها وأوقرهن ذكاءً وعقلًا وأدبًا وعفة، تزين مجالس نساء أهل المدينة بعلمها وأدبها وتقواها.. ومما يروى عن السيدة سكينة، ما رواه ابن الجوزي عن سفيان الثوري قال: أراد علي بن الحسين الخروج إلى الحج أو العمرة، فاتخذت له اخته سكينة بنت الحسين سفرة أنفقت عليها ألف درهم، وأرسلت بها إليه، فلما كان بظهر الحرة، أمر بها، ففرقت في الفقراء والمساكين. وفي الثلث الأخير من حياتها حرصت السيدة سكينة على تعليم المسلمين فضائل وأخلاقيات بيت النبوة، وقد تُوفيت في المدينة المنورة.

السيدة نفيسة بنت الحسن حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المولودة بمكة سنة 145هـ/762م: وقد نشأت بالمدينة المنورة ودرست بها في شبابها في كبريات حلقات العلماء في عصرها في المسجد النبوي، مثل الإمام مالك بن أنس، ودرّست الحديث النبوي والفقه حتى لُقبت بـ'نفيسة العلم'، ورحلت إلى مصر مع أبيها وزوجها وابنها وبنتها في رمضان عام 193هـ/809م، وأوصى الشافعي أن تصلي عليه في جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204هـ/819م، وصلّت عليها إنفاذًا لوصيته. ويذكر أنّ الإمامَ أحمد بن حنبل كان يحضر مجالس السيدة نفيسة. فهذه العالمة تتلمذ عليها اثنان من كبار علماء المسلمين في العالم، الشافعي وابن حنبل. قال الذهبي عنها: السيدة المكرمة، الصالحة، ابنة أمير المؤمنين الحسن بن زيد بن السيد، سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، العلوية الحسنية، صاحبة المشهد الكبير المعمول بين مصر والقاهرة.. وتحولت هي من المدينة إلى مصر مع زوجها الشريف إسحاق بن جعفر بن محمد الصادق فيما قيل، وتوفيت بمصر في رمضان سنة ثمان ومائتين.

فاطمة ابنة الإمام مالك بن أنس وجاريتها: وكذلك ما روي عن الإمام مالك حين كان يقرأ عليه (الموطأ)، فإنْ لحن القارئ في حرف أو زاد أو نقص، تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع، فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط.. وكان لمالك -رحمه الله تعالى- ثلاثة أبناء ذكور؛ هم يحيى ومحمد وحمّاد، فلم يشتهر بالعلم منهم إلّا ابنته فاطمة -رحمها الله-.. وكذلك ما حكي عن أشهب أنّه اشترى وهو في المدينة خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلّا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز، فأتنا نعطيك الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولم؟ قالت: لأنّه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية، فقيل له إنّها جارية العالمة الفقيهة فاطمة بنت مالك بن أنس.

suhaila_hammad@

hotmail.com